تم النشر في : 2023-02-22

تاريخ مكة القديم

تقع مكة في بلاد الحجاز في بطن واد، وتشرف عليها الجبال من جميع النواحي، فإلى الشرق يمتد جبل أبي قبيس وإلى الغرب يحدها جبل قعيقعان، ويمتد بشكل هلال، وتعرف المنطقة المنخفضة من الوادي بالبطحاء، ويقع البيت العتيق به، أما المنطقة المرتفعة فتعرف بالمعلا.

كانت مكة قبل إبراهيم u خالية من السكان،  لأنها أرض لا ماء فيها ولا زرع، فأول من سكنها  إسماعيل u وأمه هاجر -عليها السلام-.

وقد بدأ الخبر بهجرة إبراهيم u من العراق إلى الشام  ثم إلى مصر، ومعه زوجه سارة –عليها السلام-،

 وكانت من أجمل النساء، وكان في مصر مَلِكٌ مِنْ  الْمُلُوكِ أَوْ جبار من الجبابرة فَقِيلَ له: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ  بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ.

فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي([1]) ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: لا تُكَذِّبِي حَدِيثِي فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي، وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ. فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلا عَلَى زَوْجِي فَلا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ. فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ([2])، قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِيَ قَتَلَتْهُ. فَأُرْسِلَ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وتُصَلِّي، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلا عَلَى زَوْجِي فَلا تُسَلِّطْ عَلَيَّ هَذَا الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ فَيُقَالُ هِيَ قَتَلَتْهُ. فَأُرْسِلَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلا شَيْطَانًا ارْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَعْطُوهَا هاجَرَ. فَرَجَعَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ u فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ([3]) الْكَافِرَ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً([4]) ([5]).

ثم إن سارة لما كانت عقيما، وهبت جاريتها هاجر لإبراهيم u، فتزوجها ورزق منها بإسماعيل u، وقد آثار هذا غيرة سارة J.

قال ابن عباس: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ([6]) مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّيَ([7]) أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ([8]) فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً([9]) فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ قَفَّى([10]) إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَاإِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ([11]) حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ )رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(  ( إبراهيم: 37)

وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَافِي السِّقَاءِ فعَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى([12])، َانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا([13]) ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ r: فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ: صَهٍ. تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ، أَيْضًا فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ([14])؟ فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ([15]) وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنْ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ([16]) بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ r: يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا([17]). قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ([18]) فَإِنَّ هَاهُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِيه هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ. وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنْ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ([19]) تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ([20]) فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا([21]) فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا([22]) أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ فَقَالُوا أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ وَلَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ r: فَأَلْفَى([23]) ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الإِنْسَ فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ ([24]).

وكان ابراهيم u يأتي مكة ليتعهد أهله، فأُمر أن يذبح ابنه، قال تعالى: )فلما بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ _ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ _ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ _ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(([25])، وقد اختلف العلماء فيمن هو الذبيح، والراجح أنه إسماعيل لأنه الابن البكر، ثم أن الحادثة وقعت في مكة، ولم يعرف عن إسحاق أنه أتى مكة وهو صغير،  وقد ورد في مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن قرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل u بقيا في الكعبة، ورآهما الرسول r عندما فتح مكة، وأنهما احترقا مع حريق الكعبة([26]).

ماتت هاجر -عليها السلام-([27])، وشب إسماعيل u فَلَمَّا أَدْرَكَ تزوج امرأة من جرهم، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ u بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ([28]) فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ. فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ، فَلَمْ يَجِدْهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ. قَالَ النَّبِيُّ r: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ. قَالَ: فَهُمَا لا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلّا لَمْ يُوَافِقَاهُ([29]). قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ. قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ. ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَاءَ إبراهيم بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ ثُمَّ قَالَ: يَاإِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ؟ قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ. قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا. وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَاحَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولانِ: )رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(، حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة، ويَقُولانِ: )رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(([30]).

ويقال أن جبريل u نزل بالحجر الأسود فوضعه إبراهيم u في مكانه، وقد ورد في الروايات الصحيحة أنه نزل من الجنة أشد بياضا من الثلج فسودته خطايا بني آدم.

سكنت قبيلة جرهم مكة بعد وصول هاجر وابنها إسماعيل -عليهما السلام- ولم تحافظ جرهم على حرمة مكة بعد إسماعيل فانتشر البغي والفساد، ويقال إن ماء زمزم نضب([31]) في عهدهم وأن البئر زالت معالمها وعندما تفرق بعض عرب اليمن بعد سيل العرم هاجر إلى مكة ثعلبة بن عمرو بن عامر هو وقومه، ولكن جرهم لم تقبلهم فدارت الحرب بينهم وكان بنو إسماعيل على الحياد وهزمت جرهم، ولما مرض ثعلبة ولى أمر مكة وحجابة الكعبة إلى ابن أخيه ربيعة بن حارثة بن عمرو وهو لحي وعرف قومه بخزاعة وانحاز إليهم بنو إسماعيل .

حالة العالم قبل البعثة:

كان القرن السادس والسابع الميلادي من أحط أدوار التاريخ، وكان الإنسان في هذين القرنين قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وقد خفتت دعوة الأنبياء في هذه الفترة، وأصبح نورها ضعيف ضئيل لاينير إلا بعض القلوب، وانسحب رجال الدين إلى الأديرة والكنائس والخلوات فرارا بدينهم من الفتن وضنا([32]) بأنفسهم، أو رغبة في الدعة والسكون([33]) وفرارا من تكاليف الحياة وجدها.

المسيحية في القرن السادس الميلادي:

لم تكن المسيحية في يوم من الأيام واضحة ومفصلة ومعالجة لمسائل الإنسان بحيث تقوم عليه حضارة أو تسير في ضوئه دولة، بل هي متفرقات من تعاليم المسيح عليها آثار التوحيد، وجاء بولس (شاؤول) فطمسها وطعمها بخرافات الجاهلية([34]).

أحوال الأمم والشعوب المختلفة في تلك الفترة:

كان الفرس مجوس يعبدون النار، ويُحلون نكاح المحارم، ويغرقون في لُجِّيٍّ من الخرافات، والروم حرفت المسيحية، واعتنقت خرافة الثالوث، وعقيدة الصلب والفداء وباتت مُخترقة من عدة وثنيات أفلحت في إضلالها، ومن وراء هؤلاء يهود غضب الله عليهم لضياع الدين بينهم، واتخاذهم أحبارهم أرباباً من دون الله، يحلون لهم ما حرم ويحرمون ما أحل، وهنود يُطبقون على عبادة العجول والأبقار، ويونان قد مسختهم الأساطير الكلامية والفلسفات المنطقية، وصدتهم عن سبيل الهدى، وديانات أخرى كثيرة تنّتشر هنا وهناك في أرجاء المعمورة، وتتشابه في أوصاف التخبط والانحلال والاضطراب والحيرة، وكان سبب شقاء هذه الحضارات المزعومة، والمدنيات المحرومة قيامها على أسس مادية فقط دون أن يكون لها أي تعلق بنور الوحي الإلهي، لقد نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، كما قال النبي r([35])، وهذه البقايا تتمثل في أفراد أبت أن تنزلق في أوحال الشرك وظلت ثابتة على منهج التوحيد منتظرة خروج نبي جديد بشرت به أنبياؤهم، وتعلقت به أحلامهم.

حالة العرب قبل الإسلام:

ولم يكن العرب أحسن حالاً من هذه الأمم، فقد بدّل عمرو بن لُحِي الخزاعي لهم ديانة إبراهيم الخليل التي كانوا يدينون بها، ومن ثم نُشر الشرك بين أهل مكة وخارجها، حيث كان أهل الحجاز أتباعاً لمكة لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم، وبانتشار الوثنية بين العرب كثرة الخرافات الدينية التي أثرت بدورها في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تأثيراً بالغاً.

أما سياسياً: فقد كانت أحوال القبائل داخل الجزيرة العربية مفككة الأوصال، تغلب عليها النزعة القبلية والطبيعة العنصرية التي يعبر عنها شاعرهم بقوله:

وهل أنا من غُزَيَّةٍ إن غوت    غويت وإن ترشد غزيةُ أرشد

    ولم يكن لهم ملك يدعم استقلالهم، أو مرجع يلجئون إليه وقت الشدائد، ومع هذا فقد كان لهم نوع استقلال بخلاف البلاد المتاخمة للدول الكبرى، فقد كانت أشبه بالعبيد لديهم، فقد حكم الفرس العراق، وغلبت الروم على بلاد الشام، والأحباش على اليمن، وعاشت هذه الأقطار العربية انحطاطاً لا مزيد عليه، ومورست معها ألوان مختلفة من الظلم والاستبداد والقهر والعبودية. ذلك أن الدول المتسلطة على هذه الأقطار كانت ترى العرب عبيدا همجيين لا حضارة لهم.

وأما اجتماعيا فقد كانت في الحضيض الأسفل من الضعف والعماية، يُغير بعضهم على بعض فيقتل ويسبى، ويخوضون الحروب الطاحنة لأتفه الأسباب، يئدون البنات خشية العار، ويقتلون الأولاد خشية الفقر والافتقار، لا يتحاشون من الزنا، ولا يستحيون من الخرافات، ويعاملون المرأة كالسلعة المهينة نكاحاً وطلاقاً، ومعاشرة وإرثاً، ويستمرئون الجهل، ويُحَكِّمون العادات.

أما أحوالهم الاقتصادية  فقد تأثرت بالأحوال الاجتماعية فقد ساد الفقر والجوع والعري لانعدام الأمن، كما كانوا أبعد الأمم عن الصناعة لغلبة البداوة عليهم، وإن وجد شيء من الزراعة في بعض بلدانهم، وراجت التجارة في الأشهر الحرم، إلا أن الحروب الطاحنة والغارات المستمرة كانت تلقي بظلالها على أي مظهر من مظاهر التنمية.

وأما أحوالهم الخلقية: فقد كان فيهم من الدنايا والرذائل ما ينكره العقل السليم، لكنهم حافظوا على جملة من الأخلاق تميزوا بها عن سائر الأمم حينئذ كالوفاء بالعهد وعزة النفس وقوة العزيمة وإباء الضيم([36])، والنخوة([37]) والمروءة والشجاعة والكرم وغير ذلك من الصفات التي شاع الفخر بها في أشعارهم.

وبالعودة إلى مكة فبعد مضي أكثر من ثلاثمائة عام ظهرت قبيلة قريش من نسل إسماعيل u، وكانت متفرقة في بني كنانة.

 



([1]) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ u قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ قَوْلُهُ

)إِنِّي سَقِيمٌ( وَقَوْلُهُ )بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا( . أ ه، وقوله: (أختي) هي الكذبة الثالثة.

([2]) غُط حتى ركض برجله: اختنق كأنه مصروع.

([3]) أي: صَرَعه وخَيَّبَه. (النهاية في غريب الحديث)

([4]) تطْلَق الوَلِيدة على الجارية والأمَةِ وإن كانت كبيرة. (النهاية في غريب الحديث)

([5]) صحيح البخاري: كتاب البيوع، باب100 ح2217

([6]) المِنْطَق: ما يشد به الوسط. (ابن حجر، فتح الباري: 6/559)

([7]) تعفي: تمحو. (ابن منظور، لسان العرب: 15/72)

([8]) دوحة: الشجرة الكبيرة. (ابن حجر، فتح الباري: 6/559)

([9]) السِقاء: القربة الصغيرة. (المصدر السابق: 6/560)

([10]) قفى: ولى ورجع (نفسه).

([11]) في طريق كداء (نفسه).

([12]) يتلوى: يضرب بعقبيه الأرض. (نفسه)

([13]) الدِّرْع ثوب تَجُوب المرأَةُ وسطَه وتجعل له يدين. (نفسه)

([14]) الغَوَاث بالفتح كالغِيَاث بالكسر من الإغَاثة : الإعَانَة. (النهاية في غريب الحديث)

([15]) تحوضه: تجعله مثل الحوض. (ابن حجر، فتح الباري: 6/561)

([16]) أي يرتفع. (النهاية في غريب الحديث)

([17]) عينا معينا: ظاهرا جاريا. (ابن حجر، فتح الباري: 6/561)

([18]) الضيعة: الهلاك (نفسه).

([19]) الرابية: الأكمة أو الهضبة. (النهاية في غريب الحديث).

([20]) كداء: ما يسمى الآن بريع الحجون. (المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، محمد شراب: 231).

([21]) الطائر العائف: الحائم ليجد فرصة ليشرب. (ابن منظور، لسان العرب: 9/260)

([22]) جريا: رسولا (ابن حجر، فتح الباري: 6/563)

([23]) ألفى: وجد. (ابن منظور، لسان العرب: 15/252)

([24]) صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب9 ح3364.

([25])  الصافات: 102-105

([26]) مسند الإمام أحمد: 13/100-102، ح16589، 16590.

([27]) تاريخ الطبري: 1/308

([28]) أي: ولده. (النهاية في غريب الحديث)

([29]) يظهر أن المقصود أنه ما تناولهما أحد بدون شيء إلا اشتكى بطنه إلا في مكة. (ابن حجر، فتح الباري: 6/566)

([30]) صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب9 ح3364، والآية من سورة البقرة: 127.

([31]) نَضَب الماء إذا غارَ ونَفِد.

([32]) أي بُخْلاً به وشُحًّا. (النهاية في غريب الحديث)

([33]) الدعة: الراحة، السكون: الركون إلى الشيء (النهاية في غريب الحديث)

([34]) هو شاول بن كيساي ، من سبط بنيامين ، كان يعمل في صناعة الخيام في مدينة طرسوس (التابعة لسوريا الآن) ، وفي هذه المدينة ولد (شاول) والذي سمي باسم (بولس) فيما بعد، كان أبواه يهوديين (فيريسيين) وهي فرقة شديدة العنف مع المسيح ، وأشتهر بولس بعنفه في خصومته وعدائه الشديد لأتباع المسيح ، فلما رأى أن التنكيل لا يجدي معهم ؛ اتخذ أسلوباً آخر وهو محاولة هدم تعاليم المسيحية من أصلها ، وذلك بالتحريف والتبديل فيها من الداخل فأعلن بولس فجأة تحوله إلى النصرانية وأعلن أنه آمن بالمسيح وأنه صار من أخلص أنصاره وأنه يريد أن ينشر دعوته .وهكذا قبله أتباع المسيح ؛ فتمكن بمكره ودهائه أن يحول المسيحية بالنخر فيها حتى انقلبت رأساً على عقب ، وبهذا أفسد على النصارى دينهم إلى يومنا هذا .

([35]) صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب16 ح2865، 4/2197.

([36]) إباء الضيم: كره الظلم.

([37]) النَّخْوةُ العَظَمَة والكِبْرُ والفَخْرُ.