تم النشر في : 2023-03-25

محاولات قريش لقتل الرسول r

والمقاطعة وماترتب عليها، ووفاة أبوطالب وخديجة J

كان من أشد ما لقيه الرسول r من الأذى من قريش، ما أخبر به عبدالله بن عمرو بن العاص فذكر، أن أشراف قريش اجْتَمَعَوا يَوْمًا فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللّهِ r فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ قَطّ، سَفّهَ أَحْلَامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبّ آلِهَتَنَا، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ -أَوْ كَمَا قَالُوا- فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ إذْ طَلَعَ رَسُولُ اللّهِ r فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتّى اسْتَلَمَ الرّكْنَ ثُمّ مَرّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَلَمّا مَرّ بِهِمْ غَمَزُوهُ، قَالَ: فَعَرَفْت ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّه r. قَالَ: ثُمّ مَضَى، فَلَمّا مَرّ بِهِمْ الثّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّه r، ثُمّ مَرّ بِهِمْ الثّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَوَقَفَ ثُمّ قَالَ: أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذّبْحِ. فَأَخَذَتْ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتّى مَامِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا كَأَنّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ حَتّى إنّ أَشَدّهُمْ فِيهِ وَصَاةً([1]) قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ([2]) بِأَحْسَنِ مَايَجِدُ مِنْ الْقَوْلِ حَتّى إنّهُ لِيَقُولَ: انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَوَاَللّهِ مَا كُنْتَ جَهُولًا. قَالَ فَانْصَرَفَ رَسُولُ r حَتّى إذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتّى إذَا بَادَاكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ r فَوَثَبُوا إلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ: أَنْت الّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، لِمَا كَانَ يَقُولُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ r: نَعَمْ أَنَا الّذِي أَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْت رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمِجْمَعِ رِدَائِهِ. قَالَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ t دُونَهُ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبّي اللّهُ؟ ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْهُ([3]).

وحاول بعض رجالات قريش قتل الرسول r حيث ائتمر ملأ منهم فاجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ فَتَعَاقَدُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى وَنَائِلَةَ وَإِسَافٍ لَوْ قَدْ رءوا مُحَمَّدًا لقاموا إليه قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يفارقوه حَتَّى يقتلوه، وكأن فاطمة J سمعتهم، فَأَقْبَلَتْ تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَتْ: هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ تَعَاقَدُوا عَلَيْكَ لَوْ قَدْ رَأَوْكَ لَقَدْ قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ أَرِينِي وَضُوءًا، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ الْمَسْجِدَ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَا هُوَ ذَا، وَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ وَسَقَطَتْ أَذْقَانُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ وَعَقِرُوا([4]) فِي مَجَالِسِهِمْ فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ بَصَرًا وَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلٌ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ r حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ التُّرَابِ فَقَالَ: شَاهَتْ([5]) الْوُجُوهُ ثُمَّ حَصَبَهُمْ([6]) بِهَا فَمَا أَصَابَ رَجُلًا مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْحَصَى حَصَاةٌ إِلَّا قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا([7]).

وهنا رأت بنو هاشم ضرورة حماية الرسول r، من محاولات قريش لقتله، وأظهرت لهم بأنها لن تتوانى في قتل من يقتله، وستقاتل عشيرة القاتل إذا رفضت عشيرته تسليمه.

وكانت قريشا قد عرفت أن أبا طالب أبى خذلان رسول الله r، وعزم على فراقهم في ذلك وعداوتهم فمشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد –أقوى- فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامنا فنقتله، فإنما هو رجل برجل! قال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا. فقال المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا. فقال أبوطالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك([8]).

ومع ازدياد عدد المسلمين رغم مافعلته قريش من الأذى لهم، وفشلها في قتل الرسول r في ظل الحماية التي يفرضها بنو هاشم له، ومواقف أبي طالب الداعمة للرسول r جعل قريشا تفكر في وسيلة جديدة لوقف هذا المد الإسلامي، فاتفقت قريش وبنو كنانة على مقاطعة بني هاشم والمسلمين، فلا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يؤووهم حتى يرجعوا إلى الكفر أو يسلموا رسول الله r إليهم ليفعلوا به ما شاءوا، وكتبوا صحفية بذلك علقوها في جوف الكعبة، وكان اجتماعهم بخيف بني كنانة([9]).

وانحاز بنو هاشم وبنو المطلب([10]) لأبي طالب فكانوا معه في الشعب إلا أبالهب فقد انحاز إلى قريش، واستمر الحصار مايقارب الثلاث سنوات، جهد فيها المحاصرون جهدا كبيرا حيث لم تكن تصل إليهم الأقوات إلا خفية، وبلغ بهم الجوع أنهم أكلوا ورق الشجر.

ثُمّ إنّهُ قَامَ فِي نَقْضِ تِلْكَ الصّحِيفَةِ الّتِي تَكَاتَبَتْ فِيهَا قُرَيْشٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُبْلِ فِيهَا أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْ بَلَاءِ هِشَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حُبِيبِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ القرشي العامري([11])، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ ابْنَ أَخِي نَضْلَةَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ لِأُمّهِ فَكَانَ هِشَامٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَاصَلًا، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ فَكَانَ يَأْتِي بِالْبَعِيرِ وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ فِي الشّعْبِ لَيْلًا، قَدْ أَوْقَرَهُ([12]) طَعَامًا، حَتّى إذَا أَقْبَلَ بِهِ فَمَ الشّعْبِ خَلَعَ خِطَامَهُ مِنْ رَأْسِهِ ثُمّ ضَرَبَ عَلَى جَنْبِهِ فَيَدْخُلُ الشّعْبَ عَلَيْهِمْ ثُمّ يَأْتِي بِهِ قَدْ أَوْقَرَهُ بَزّا([13])، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ.

ثُمّ إنّهُ مَشَى إلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ([14])، وَكَانَتْ أُمّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِالْمُطّلِبِ([15])، فَقَالَ: يَا زُهَيْرُ، أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطّعَامَ وَتَلْبَسَ الثّيَابَ وَتَنْكِحَ النّسَاءَ وَأَخْوَالُك حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ لَا يُبَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ وَلَا يَنْكِحُونَ وَلَا يُنْكَحُ إلَيْهِمْ؟ أَمَا إنّي أَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنْ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، ثُمّ دَعَوْتَهُ إلَى مِثْلِ مَا دَعَاك إلَيْهِ مِنْهُمْ مَا أَجَابَك إلَيْهِ أَبَدًا؛ قَالَ: وَيْحَك يَاهِشَامُ فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إنّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَاَللّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْت فِي نَقْضِهَا حَتّى أَنْقُضَهَا، قَالَ: قَدْ وَجَدْت رَجُلًا قَالَ فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ أَنَا، قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: أَبْغِنَا رَجُلًا ثَالِثًا.

فَذَهَبَ إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ([16]) فَقَالَ لَهُ: يَا مُطْعِمُ أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ يَهْلِكَ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقُرَيْشِ فِيهِ أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدُنّهُمْ إلَيْهَا مِنْكُمْ سِرَاعًا؛ قَالَ: وَيْحَك فَمَاذَا أَصْنَعُ إنّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ؟ قَالَ: قَدْ وَجَدْت ثَانِيًا؛ قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: أَبْغِنَا ثَالِثًا، قَال:َ قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ، قَالَ: أَبْغِنَا رَابِعًا.

فَذَهَبَ إلَى أبي الْبَخْتَرِيّ بْنِ هِشَامٍ([17]) فَسَأَلَ لَهُ نَحْوًا مِمّا قَالَ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ، فَقَالَ: وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ، وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ، وَأَنَا مَعَك، قَالَ: أَبْغِنَا خَامِسًا؟.

فَذَهَبَ إلَى زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، فَكَلّمَهُ ذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُمْ وَحَقّهُمْ، فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الّذِي تَدْعُونِي إلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمّ سَمّى لَهُ الْقَوْمَ.

فَاتّعَدُوا خَطْمَ([18]) الْحَجُونِ لَيْلًا بِأَعْلَى مَكّةَ، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ. فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَتَعَاقَدُوا عَلَى الْقِيَامِ فِي الصّحِيفَةِ حَتّى يَنْقُضُوهَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فَأَكُونُ أَوّلَ مَنْ يَتَكَلّمُ. فَلَمّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَغَدَا زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ عَلَيْهِ حُلّةٌ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكّةَ، أَنَأْكُلُ الطّعَامَ وَنَلْبَسُ الثّيَابَ وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى لَا يُبَاعُ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ؟ وَاَللّهِ لَا أَقْعُدُ حَتّى تُشَقّ هَذِهِ الصّحِيفَةُ. الْقَاطِعَةُ الظّالِمَةُ. قَالَ أَبُو جَهْلٍ -وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ-: كَذَبْتَ وَاَللّهِ لَا تُشَقّ، قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ: أَنْتَ وَاَللّهِ أَكْذَبُ مَارَضِينَا كِتَابَهَا حَيْثُ كُتِبَتْ، قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ: صَدَقَ زَمْعَةُ، لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَلَا نُقِرّ بِهِ، قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ: صَدَقْتُمَا وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ نَبْرَأُ إلَى اللّهِ مِنْهَا، وَمِمّا كُتِبَ فِيهَا، قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلِ تُشُووِرَ فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ قَالَ: وَأَبُو طَالِبٍ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَامَ الْمُطْعِمُ إلَى الصّحِيفَةِ لِيَشُقّهَا ، فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا، إلّا "بِاسْمِك اللّهُمّ"، وقيل: كان الرسول r قد أخبر عمه بذلك، فوجدوها كما وصف.

وانتهى الحصار في السنة العاشرة من بعثة الرسول r.

خرج المسلمون من المقاطعة، ولم يلبث قليلا حتى فجع الرسول r بوفاة عمه أبي طالب الدرع الواقي له من مواجهات قريش وتعنتها وأذاها، ورغم كل ما اتصف به أبوطالب من خلق في تعامله مع رسول الله r إلا أنه لما حضرته الوفاة جاءه رسول الله r مشفقا عليه، فوجد عنده أباجهل وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة([19])، فطلب رسول الله r من عمه أن يقول كلمة يشهد له بها عند الله تعالى، ولكن جليس السوء أشعلا فيه الحمية وحثاه على عدم ترك ملة أبيه عبدالمطلب، وما زال رسول الله r يدعوه ومازالا يمنعانه، حتى كانت آخر كلمة قالها أنه على ملة أبيه عبدالمطلب، ومات كافرا، فاستغفر رسول الله r له حتى نزل قول الله تعالى: )مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(([20])، وقول الله تعالى: )إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(([21]).

وقد أخبر الرسول r أنه فِي ضَحْضَاحٍ([22]) مِنْ نَارٍ([23])، وأنه أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ([24]).

وبعد وفاة أبي طالب فجع رسول الله r مرة أخرى بوفاة زوجه خديجة (رضي الله عنها)، ومع موتها فقد الرسول r زوجا حنونا وأما رؤوما طالما كانت تخفف عنه آلامه وتؤنس في حزنه، وبخاصة بعد وفاة عمه أبي طالب، حيث نالت منه قريشا مالم تنله من قبل، فكان يجد في زوجه خديجة خير سكن له من الشدائد، وقد أخبر الرسول r أنه رآها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا لغو ولا نصب([25])، وكان جبريل u قد زار رسول الله r من قبل فقال له: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ([26]).

ومع توالي الآلام على رسول الله r في ذلك العام سمي بعام الحزن.

 



([1]) الوصاة: الوصية أي الذين كانوا يحرضون عليه ويوصون بإيذائه.

([2]) يرفؤه: يهدئوه ويسكنوه.

([3]) ابن هشام، السيرة النبوية: 1/204، وقال محققه: إسناده قوي.

([4]) العَقَر بفَتْحتين أن تُسْلِمَ الرجُلَ قوائمُه من الخَوف. وقيل: هو أن يفْجَأه الرَّوعُ فَيدْهشَ ولا يستطيعَ أن يتقدَّمَ أو يتأخر.

([5]) شاهت: قبحت.

([6]) حصبهم: أي رماهم بالحصباء، وهي الحصى الصغير.

([7]) مسند أحمد: 3/228، 459، ح2726، 3485.

([8]) ابن هشام، السيرة النبوية: 1/186-187، ابن كثير، السيرة النبوية: 1/484-485.

([9]) صحيح البخاري: كتاب الحج، باب نزول النبي r مكة، فتح الباري: 3/649، وخيف بني كنانة هو موضع في منى، ومنه سُمّي مسجد الخيف من منى.

([10]) عن جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ r فَقُلْنَا أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا وَنَحْنُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ؟ فَقَالَ: "إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ" قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمْ النَّبِيُّ r لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا. (صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، فتح الباري: 7/688).

([11]) من المؤلفة قلوبهم

([12]) الوقر: الحمل الثقيل

([13]) البز: الثياب.

([14]) من المؤلفة قلوبهم، وأخو أم سلمة –أم المؤمنين- من أبيها.

([15]) قيل: قد أسلمت.

([16]) روى البخاري: َأنَّ النَّبِيَّ r قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ.

([17]) هو أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، لم يدرك تأمين الرسول r يوم بدر حيث قتل كافرا، والده هو ابن عم السيدة خديجة بنت خويلد.

([18]) الخطم: المقدمة

([19]) وهو ابن عمة الرسول r عاتكة بنت عبدالمطلب، وأخو أم سلمة من أبيها، يعد من الصحابة.

([20]) سورة التوبة: 113

([21]) سورة القصص: 56، والخبر في صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة ب40، فتح الباري: 7/273.

([22]) ضحضح: في الأصْل: ما رَقَّ من الماء على وجه الأرض ما يبلُغ الكَعْبين فاستَعارَه للنار.

([23]) صحيح البخاري.

([24]) صحيح مسلم، مسند أحمد: 3/184 ح2636

([25]) الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم: 5/381، مسند أبي يعلى: 4/41 ح2047 وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار ورجالهما رجال الصحيح غير مجالد بن سعيد، وقد وثق وخاصة في أحاديث جابر (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 9/223-224).

([26]) متفق عليه